من قصص اليافعين:
قصة: شجرتي
تأليف: عماد كوسا
لقد زرع جدّي أشجارًا كثيرةً، ليس فقط في الحديقة المحيطة بدارنا، أو في المزرعة المجاورة فحسب، بل زرع الكثير من أشجار الزيتون في حقل الوادي، وزرع شجيرات العنب في السفح القريب، وأشجار التفاح والليمون والزيزفون في حقول أخرى.
يقول لي جدّي على الدوام: الزيزفون بركة يا عامر.
ولأنني لم آكل من شجرة الزيزفون شيئًا فقد كنت أستغرب منه وأقول له: لكنها لا تثمر يا جدّي، هل ستثمر عندما تكبر؟
يبتسم جدّي ويقول لي: ليست كل الأشجار مثمرة يا عامر، لكل شجرة فائدتها الخاصة، وليست الفائدة
ثمارًا فحسب.
أعود وأسأل: كيف تفيدنا شجرة الزيزفون وليست لها ثمارٌ يا جدّي؟
يقول لي: مثل الورد الذي يعطيك جمالًا ورائحة، وليس له ثمر.
يضيء ذهني قليلًا، أشعر أني بدأت أفهم. وراحت صور أشجار السرو والصنوبر تحوم في مخيلتي، تحطُّ عليها العصافير، تبني أعشاشها هناك فوق الأغصان. إنها ليست أشجارًا فحسب، إنها بيوتٌ للعصافير أيضًا.
سمعت جدّي يقول: الزيزفون شجرةٌ جميلةٌ، لها رائحة أخّاذة. وأوراقها وزهورها مفيدة جداً.
في تلك اللحظة شعرت أنه يجب أن تكون لي شجرتي الخاصة، التفتتُ إليه وأنا أقول: أريد أن أزرع شجرةً يا جدّي.
أمسك بيدي ورفعها عاليًا: أحسنت يا بطل.
ثم التفتَ إليّ وسألني: وماذا ستزرع يا صغيري؟
لم أكن قد رتبت الأمر بعد، لقد لمعت الفكرة في رأسي للتو، ترددت في الجواب ورحت أبحث في مخيلتي.
أريد أن أزرع شجرةً جميلةً، يكون لها ظل ورائحة وثمار. تهبط عليها الطيور، تبني أعشاشها في أمان، ويأكل الجميع من ثمارها.
لا أعرف يا جدّي، أريد شجرةً مميّزة.
ضحك جدّي وهو يأخذني إلى حقل الوادي.
في الوادي يا عامر سترى العديد من أنواع الشجر، ما عليك إلا أن تختار، وتزرع ما تحب.
وبينما كنا نهبط إلى الوادي قال لي: إنّ خير طعامك ما تصنعه بيدك، وخير الثمار ما تجنيها من تعبك، وخير التعب ما يثمر.
قلت له: جدّي، سأزرع شجرةً مثمرةً.
تجولت مع جدّي في الحقل الواسع وشاهدتُ العديد من أنواع الأشجار، لكنَّ ما لفَتَ انتباهي أكثر هي أشجار البرتقال، فرائحتُها طيبة وشكلها جميل وتبدو حبات البرتقال المتدلية من أغصانها كمصابيح مضيئة.
قلت لجدّي: أنا دائمًا أشعر أن البرتقال عبارة عن مصابيح معلّقة بأغصان الشجر.
ضحك جدّي وهو يمدُّ يده إلى برتقالة معلّقة بغصن مورق، وراح يمسحها بيده ويقول لي: هذا برتقال يافاوي يا عامر، نعم إنه مصباح معلّق في ذاكرتنا أيضًا.
رفعت رأسي مدهوشًا وقلت له: هل تعني أن أصله من يافا؟
ابتسم جدّي وهو يضع يده على رأسي: أجل يا عامر، لقد كانت لنا مزرعةٌ جميلةٌ هناك، مليئة بأشجار البرتقال،
وعندما كنت في عمرك كنت قد زرعت الكثير من أشجار البرتقال.
حلقت بخيالي إلى مدينة كبيرة ذات بيوت حجرية مربعة، تحيط بكل بيت حلقة من أشجار البرتقال.
أيقظني جدّي وهو يقول: البرتقال اليافاوي حلو المذاق، كثير العصارة، لونه زاهٍ جميل.
قطف جدّي البرتقالة ووضعها في يدي وهو يقول: قشّرها وجرّبها بنفسك.
بدأتُ تقشيرها بهمة، وكأنّ هذه أول برتقالة أقشرها في حياتي، لكني تعذبت في تقشيرها قليلًا، فقشرتها سميكة قاسية.
قلت لجدّي وأنا أرمي قشرها جانبًا: هل هذه من مساوئها يا جدّي، إنّ قشرتها غليظة.
ضحك جدّي وقال: لا يا ولدي، هذه أيضًا من ميزاتها، فالقشرة السميكة تحفظها لفترة أطول.
كان البرتقال ينتقل من يافا إلى العالم في صناديق خشبية. وينقل على متن السفن، يبقى في الطريق شهورًا دون أن يفسد.
انتهيت من تقشير البرتقالة وقسمتها نصفين وأعطيت نصفها لجدّي وبدأت أتناول نصفها الآخر.
أريد شتلة برتقال يافاوي يا جدّي، سأزرع شجرتي بنفسي، سأرعاها حتى تكبر ونأكل من ثمارها.
زرعتُ شجرتي قريبًا من أشجار البرتقال التي زرعها جدّي، وصرتُ أسقيها الماء عند إشراقة الشمس وعند مغيبها، وأمضي يومي كله في مراقبتها.
كانت فروعها تنمو رويدًا رويدًا. تتدافع إلى الحياة بلهف العصافير، أراقب أوراقها تتلون بلون الربيع في الروابي المحيطة، وجذعها يثخن ليقوى على حمل الأغصان والأوراق والثمار.
كنتُ أقلع الأعشاب الضارّة والأشواك حول شجرتي، لأنها كما قال جدّي تعيق نموّها فلا تدعها تنمو بحرية.
آه .. حتى الأشجار بحاجة إلى الحرية كي تنمو.
وذات يوم وبينما ملأت الفراشات جوّ القرية، ونشرت الورود والرياحين عبقها في أرجائها، وضجّ الأطفال ضجيج الحياة، كنتُ في طريقي إلى الحقل لأرى شجرتي وأتعهدها بالرعاية كما أفعل كل يوم، شعرت بشيء غريب! كان أمرٌ ما قد حدث للتو.
أسرعتُ نحو شجرتي بقلق، رأيت العصافير تختبئ بين أفنان الأشجار خائفة، يا إلهي ماذا هذا؟
حمير وبغال تعبث في الحقل وتلتهم الأشجار الصغيرة الطرية وتفسد كلّ شيء.
صرخت بأعلى صوتي: جدّي.
أدركت أن جدّي بعيدٌ ولن يسمع صوتي. فرحت أصرخ كي تخرج البغال والحمير من الحقل. لكنها لم تفهم.
حملت حجارة ورحت أقذفها بقوة كي أبعدها عن شجرتي، ثم قطعت غصنًا من شجرة قريبة ورحت أضربها بها وأخرجها من الحقل وأنا أصرخ.
تعبتُ كثيرًا حتى تمكنتُ من إخراجها وإبعادها عن الحقل. ورجعتُ إلى شجرتي المسكينة، كانت قد تأذّت بالفعل، انكسرت بعض أغصانها الطرية، وتهشمت أوراقها. لا أعرف كيف أصلح الأمر، لا بدّ أن يأتي جدّي ليساعدني. كانت هناك أشجار أخرى مثل شجرتي، تناثرت أوراقها على الأرض وتكسرت أغصانها.
بكيت وأنا أقول: كيف نسيتُ أن أحمي شجرتي من هذه الحيوانات؟
جاء جدّي بعد ساعة وغضب كثيرًا حينما رأى أشجاره مقطعة الأغصان.
قلتُ له: لا بد أن نبني سورًا منيعًا يحمي كلّ أشجار الحقل، وإلا فإن الحمير والبغال ستأتي في الغد أيضًا، بعد أن ذاقت طعم البرتقال.
نظر إليّ بعينين محمرتين وقال: نعم يا ولدي، فقد انتشرت رائحة البرتقال وجذبت الطامعين، وحان وقت حمايتها.
قلت له: سوف أحرس شجرتي ليل نهار.
قال لي: أجل يا عامر، لا تترك شجرتك دون حراسة، ولا تدع غيرك يعبث بثمارها. لقد تمزق حقل البرتقال الذي زرعناه في يافا حين غفلنا عنه.
———————————————