غدي تعدّ الغمام “قصة للأطفال” بقلم: حوراء دهيني
قصّة: غدي تعدّ الغمام
بقلم: حوراء دهيني – لبنان
اسمي “غدي”، كنت أكره النّوم، أخوض جدالًا كلّ يوم في المساء مع أمّي، في محاولة منّي لتأجيل ساعة النّوم قدر الإمكان.
“النّوم ممّلٌ للغاية، لا متعة فيه”.
“أريد أن أصبح كبيرةً كي أتمكّن من التّحكّم بساعة نومي واستيقاظي، وعندها سأظلّ ساهرةً كلّ الليل”.
كانت أمّي ترهق في محاولات إقناعي بأهميّة النّوم، تحكي لي أن النّوم يساعد عقلنا على النماء، يريح أجسادنا، ويعيننا على تحمل المشقات خلال النّهار، وأنّه للجسد كالبطاريّة لجهاز التحكّم، دونه لا يتمكّن ذهننا أن يسجّل المعلومات أو يحفظ الذكريات. لكنّ كلّ ذلك لم يكن يجدي نفعًا، ولم أكن أستطيع أن أذعن للنّوم إلّا بعد طول تعب وعناء.
ذات مساء بينما تحاول ماما مساعدتي على النّوم، قلت لها: “أريد أن أكون بومة فالبومة لا تنام طوال اللّيل”.
“لكّنها يا عزيزتي تقضي النّهار نائمة بالكهوف أو بجذوع الأشجار” ردّت أمّي.
“لا بأس! سأفكّر بحيوان آخر أكون على هيأته خلال النّهار، وبذلك لن أتحوّل إلى بومة إلّا بعد أن يحلّ الظّلام”.
ضحكت ماما وردّت مازحة، “عليك أن تحسمي خياراتك قبل عثورك على المصباح السّحري، لأنّ عدد الأمنيات محدود، وبعد الاختيار لن ينفع النّدم”.
في مساء آخر، بينما كانت أمّي تساعدني على التّجهّز للنّوم، أخبرتها: “ماما ماما، لقد قرّرت، في النّهار أريد أن أكون ناقةً، النّاقة هي أنثى الجمل، هكذا قالت المعلّمة، أتعرفين أنّ النّوق والجمال لا تنام نهارًا، أمّا في اللّيل فتكتفي بستِّ ساعاتٍ من النّوم وتكون واقفةً خلالها؟
أتعرفين أيضًا أنّها تستطيع شرب ماء البحر، والبقاء لأيّام عديدة دون طعامٍ أو شراب، إنّها قادرةٌ على تحمّل الصّعاب والمشقّات، إذا كنت مثلها لن يتعبني الرّكض واللّعب، ولن أحتاج لأتوقّف عن القيام بعمل أحبّه حين يحين وقت الغداء.
ضحكت ماما كثيرًا وقالت” الجمال لطيفة جدًّا، لكنّ ليس على الأطفال أن يشربوا ماء البحر ويتحمّلوا الصّعاب، عليهم فقط أن يستسلموا للنّوم مساءً ليحافظوا على نشاطهم ويقوموا بأعمالهم المحبّبة في النّهار التّالي، ما رأيك أن نتعلّم الآن حيلة شهيرة يستخدمها الكبار والصّغار عبر العصور لتساعدهم على النّوم؟”.
“موافقة بالتّأكيد، ما هذه الحيلة يا ماما؟”
“إنّها حيلة عدّ الخراف”، قالت وطلبت منّي أن أغمض عينيّ وأتخيّل خطًّا طويًلا من الخراف التي تقفز عن سورٍ قصير واحدة تلو الأخرى، حتّى أستسلم للنّعاس. أغمضت عيني، وما هي إلّا دقائق حتّى دخلت عالم السّبات. وصرت أحتال على الأرق دائمًا بعدّ الخراف.
صباح يومٍ حزين، أيقظتني ماما على استعجال، “هيّا يا غدي، علينا أن نترك البيت فورًا، القصف سيقترب من حيّنا، ضعي بعضًا من ملابسك في حقيبة الظّهر، والبسي حذاءك لنلحق بالجميع.
عرفت يومها ككلّ الأطفال أنّها الحرب، مشينا كثيرًا، كان طريقنا مليئًا بالأهوال، أنهكنا الجوع والتّعب والعطش. توقّفنا مرّة لتحاول ماما إصلاح نعل حذائي الذّي تمزّق من المشي الطّويل، فنظرت إليّ وحدّثتني: “لقد كنت محقًّة يا غدي، ليتنا كنّا نوقًا وجمالًا، كان ذلك سيهوّن علينا هذا الشّقاء.”.
وصلنا إلى مكان مكتظٍّ بالبشر، كانت الخيام تعجّ بناس نزحوا مثلنا من رعب الحرب. الخيمة باتت منزلنا الجديد، لم تعد أمّي تعاقبني على اتّساخ ملابسي، لم يعد وقت اللّعب بالرّمل محدّدًا بجدول زمني في الخارج، لم يعد لدينا شيء، لا ألعاب ولا وسائد أو أسرّة، صرت أخرج يدي من البطانيّة في وقت النّوم وأتلمّس الرّمال.
عاد الأرق لينتابني ليلًا، عدت إلى حيلة الخراف التّي علمتني إيّاها أمّي، كان مكان النّوم المخصّص لي قريبًا من باب الخيمة، أطللت رأسي مرّة فرأيت السّماء، وقرّرت أن أعدّ الغمام التّي يحدّد أطرافها ضوء القمر وتسبح في بحار الظلام.
في الصّباح قلت لماما أنّ الخراف في الحيلة لم تعد خرافًا، صارت وسائد قطنيّة ناعمة، أمّا السّور فصار ملاكًا يحمل الوسائد ويوزّعها على أطفال المخيّم الذين يقفون في خطّ طويل قربه.
حضنتني وقالت: سنرجع يومًا يا حبيبتي، سنعود إلى بيتنا، وستنامين على سريرك الدّافئ ووسادتك المريحة.
في المخيّم، لاحقنا أنا وباقي الأطفال الخطوط البيضاء الذّي كانت تخلّفها الطّائرات الحربيّة، صنعنا مقلاعًا وصرنا نجمع الحصى ونرميها بها. لكنّ صوت الطّائرات كان يصمّ الآذان معظم الوقت، ويمنعنا من التّفكير في أي شيء آخر، فكّرت أنّ حاسّة السّمع عند البومة والنّاقة شّديدة القوّة، ولن تستطيع تحمّل أصوات هذه الطّائرات المزعجة.
مرّة اقترب الصّوت كثيرًا، حاولت سدّ أذني بمنديل ورقي، فجأة توقّف الزّمن، وارتجّت الدّنيا حولنا، ثوانٍ قليلة حوّلها الخوف لوقت طويل، رأيت الدّخان والرّكام والنّار الذّي خلّفته الغارة الجويّة، ركضت إلى الخيمة، فشدّتني أمّي إليها، بكيت كثيرًا في حجرها وصرخت “لا أريد أن أكون ناقةً أو بومة يا ماما، أريد فقط أن أعود طفلةً، وأريد أن يكون لي غدي”.